حين نعود للطفولة، نحس برعشة ما، ذاك أن ماضينا الأول غاص بالمفارقات والجراح، جراح نستحضرها الآن بتلذذ غريب ، ربما لأن العقل الجمعي بنماذجه وأطره أفسد علينا طراوة الأشياء وأصلها. أقول كلما عدنا، تتفجر دواخلنا بفوضى عميقة لا حد لها في الجسد وليس على الأرض . و نحن نستعيد صفحات غير ذهبية من طفولتنا المشتركة، طفولة سارحة، مالحة، جارحة، أو قل طفولة بعناوين و أسماء استثنائية وربما الذي يوحد بينها هو هذا الإستثناء الذي يشدنا للجذور والخلاءات. لذا ترانا مفتونين بالرائحة والدفء الساري في الأشياء ، وربما باسم ذلك نطمأن ويمسح على رؤوسنا حتى لا نركب الرياح ونتعلم الصراخ الذي فارقناه خطوة خطوة ـ بفعل الرضاعة والعصا الملونة ـ منذ قدومنا لهذا الوجود .
لا أقول هنا ، إن الطفولة أصل و امتداد ؛ ولكن هي على الأقل ملمح أساسي من حياة الإنسان ، يحن له كهامش للشغب و الإنفلات الفطري الذي عاشه ولا يقوى عليه الآن بين قولبة واقع ورقابة هيكل . أقول إنفلات دون عدة ، ماعدا العود الجسدي الطري الذي تعرض للكدمات و الرضوخ ؛ و بقي صالحا للإستمرار تدحرجا على رصيف الزمن وعلى مرأى من العالم طبعا .
ذكرني صديق في هذا الفصل، بمعلم زمان المتسلط و المستبد بالقلوب و العقول الصغيرة، أعني تلامذته الذين عاشوا العقاب البدني بأشكاله المختلفة، العقاب الشبيه بعصا سجون كوكب المريخ ، هو عقاب خال تماما من المعرفة، فحضرتني في الحين لحظة جميلة هو أني التقيت مؤخرا بأحد معلمي السابقين ضمن أحد الأبناك، فقلت له : التلاميذ نسوك ولم ينسوا عقابك. فضحك قائلا: فين هي هاذيك ليام ؟. فقلت دون مواربة: ما زلت تحن للفريسة ؛ وافترقنا دون وداع.
ألم أقل لكم إن الطفولة جارحة عند أصحاب الأفواه الفاغرة ؛ وليس أفواه المعالق الذهبية... ومع ذلك لم ولن نندم على صفحاتنا الأولى التي نسترجعها بلذاذة و حب غامض، كوننا عشنا رغم الجراح و لم نطلب تعويضا... أنا لم أقل كنا جميعا في سجن كبير و العقاب واحد.واذا حصل التشابه، فبئس المصير.
أعود وأتأمل الطفولة الفائضة في الطرقات ، والتي تتعرض لضربات الكبار وسلطهم ؛ فلا يجري ماء هذه البراعم كما تشتهي الحياة . وفي المقابل ، أتأمل طفولة الكبار: إننا أطفال مع أولادنا وزوجاتنا ، أطفال حين نخلو بأنفسنا، ونتيه في ذاك العمق الذي يتأمل ويهدم ما يقولب ويصنع الأشياء على صور ومقاسات . لكننا نخبىء ذلك ، لتأدية الأدوار دون ثغرات تدخل منها الريح . وبالمناسبة ، الكتاب أيضا أطفال في نصوصم المنسابة كطبيعة خاصة ؛ لكنهم غير ذلك في اليومي والحياة ، أعني الكتاب الذين يتغذون على اللآخرين كنوع من المعرفة الجديد الذي يغني ويسمن من جوع...